الترخيص الجديد لـ “بايبت” يفتح باب المنافسة على الكفاءات في سوق الكريبتو الإماراتي

يشهد سوق العملات الرقمية في الإمارات تحولًا جذريًا مع توسّع شركة “بايبت” بشكل غير مسبوق، بعد حصولها في الآونة الأخيرة على ترخيص من هيئة الأوراق المالية والسلع (SCA). وما بدأ كخطوة تنظيمية، تحوّل سريعًا إلى حملة توسّع واسعة تعيد رسم خريطة الأصول الرقمية في البلاد، وتضع المنافسين أمام تحديات جديدة.
ويُقرّ المسؤولون التنفيذيون في هذا القطاع بأن موجة التوظيف المكثفة التي تقودها “بايبت” تُؤثّر فعليًا على النظام البيئي بأكمله. وتشير التقارير إلى أن موظفين رئيسيين من منصات أخرى تلقّوا عروضًا مغرية برواتب تفوق ما يتقاضونه حاليًا بمرتين أو حتى ثلاث مرات، ما يعكس اندلاع حرب على المواهب تتصدرها “بايبت” بوضوح.
من VARA إلى SCA: إعادة تموضع استراتيجي
تعكس رحلة “بايبت” التنظيمية في الإمارات العربية المتحدة مزيجًا من الطموح والمرونة في التكيّف مع بيئة تنظيمية متعددة المستويات. فقد حصلت المنصة أولًا على موافقة مبدئية (IPA) من هيئة تنظيم الأصول الافتراضية (VARA) في دبي بتاريخ 21 أغسطس 2024، لتنضم بذلك إلى عدد من الشركات العالمية التي تسعى إلى إضفاء الطابع الرسمي على عملياتها ضمن إطار دبي التنظيمي.
غير أن “بايبت” لم تكتفِ بذلك، بل وسّعت نطاق عملها نحو المستوى الاتحادي، حيث تقدّمت بطلب ترخيص لدى هيئة الأوراق المالية والسلع (SCA)، الجهة التنظيمية الوطنية المسؤولة عن الإشراف على أنشطة الأصول الرقمية المحلية. وفي عام 2024، حصلت الشركة على موافقة SCA المبدئية بعد أيام قليلة فقط من أكبر اختراق في تاريخ العملات الرقمية، لتتبعها في عام 2025 بالحصول على ترخيص تشغيل كامل، ما جعلها من أوائل المنصات الدولية التي تحقق هذا الإنجاز في الإمارات.
ومن اللافت أن موافقة VARA IPA الخاصة ببايبت لا تزال فعالة في السجل العام للهيئة التنظيمية، وهو ما قد يشير إلى وجود تداخل إداري أو استمرار مقصود. وبذلك، يبدو أن بايبت تسعى إلى ترسيخ حضورها في كل من دبي وأبوظبي، في إطار استراتيجية شاملة تضمن الامتثال لمختلف السلطات التنظيمية، بدلًا من الاكتفاء بالعمل تحت ولاية واحدة.
حملة التوظيف المكثفة
إذا كانت رخصة هيئة الأوراق المالية والسلع هي الشرارة الأولى، فإن استراتيجية “بايبت” في التوظيف هي الانفجار الحقيقي. إذ تُظهر صفحة الشركة على “لينكدإن” حاليًا أكثر من 23 وظيفة شاغرة، جميعها في أبوظبي أو متاحة للعمل عن بُعد، بينما تغيب تمامًا فرص العمل في دبي. ويعكس هذا التحوّل الجغرافي تركيز الشركة على توسيع كيانها التشغيلي المرخّص من قبل SCA.
وتشمل الوظائف المتاحة مجالات متعددة مثل التسويق، وإدارة الحملات، والمشاركة المجتمعية، ومدفوعات العملات الرقمية، ومكافحة الاحتيال، وعمليات البطاقات، وتحليل البيانات، وإدارة المخاطر. هذا التنوع الوظيفي لا يعكس مجرد التزام بالمتطلبات التنظيمية، بل يشير إلى بناء منظومة مالية رقمية متكاملة تهدف إلى تحويل بايبت إلى مركز تشغيل مستقل قادر على إدارة جميع جوانب نشاطها، من تطوير المنتجات وحتى دمج حلول الدفع.
وفي ظل ذلك، يرى العديد من التنفيذيين أن حزم الرواتب التي تعرضها بايبت تُحدث هزة حقيقية في السوق. ففي بعض الحالات، يُعرض على الموظفين ما يعادل ضعف أو ثلاثة أضعاف رواتبهم الحالية للانضمام إلى الشركة. وفي سوق صغير ومتخصص كسوق الإمارات العربية المتحدة، يمكن لأي انتقال لموظف رئيسي أن يُحدث اضطرابًا تشغيليًا، خصوصًا في الوظائف الحساسة مثل الامتثال أو إدارة المخاطر.
ثقافة السرعة
خلف هذا التوسع المتسارع، تقف ثقافة مؤسسية قائمة على السرعة والحسم. فقيادة “بايبت” تتبع نموذجًا إداريًا مألوفًا لدى شركات التكنولوجيا ذات الجذور الآسيوية، حيث تُعطى الأولوية للتنفيذ السريع واتخاذ القرار الفوري على حساب المداولات الطويلة.
وقد مكّن هذا النهج الشركة من التحرّك بوتيرة أسرع من منافسيها الغربيين، الذين غالبًا ما تُقيّدهم طبقات الحوكمة الداخلية المعقدة. فما إن حصلت بايبت على ترخيص SCA حتى بدأت فورًا في تنفيذ خططها التوظيفية وتنشيط عملياتها، ما أكسبها زخمًا قويًا في وقت قياسي.
التداعيات على المنصات الصغيرة
أما بالنسبة للمنصات الصغيرة والمتوسطة، فقد بدأت التأثيرات تظهر بوضوح. إذ أدت الزيادة المفاجئة في الرواتب إلى رفع تكاليف التشغيل إلى مستويات تفوق قدرة العديد من الشركات المحلية على التحمل، خصوصًا تلك التي لا تمتلك احتياطيات مالية كبيرة أو دعمًا من مجموعات عالمية.
كما أن فقدان الموظفين الرئيسيين، لا سيما أولئك المسجّلين كمسؤولين “مؤهلين” لدى الجهات التنظيمية، يمكن أن يجمّد العمليات أو يؤخّر عمليات التدقيق والمراجعة. وقد لجأت بعض المنصات إلى تقديم حوافز إضافية للاحتفاظ بفرق عملها، إلا أن القليل منها قادر فعليًا على منافسة بايبت من حيث القوة المالية.
وفي حال استمر هذا الاتجاه، فقد تشهد الإمارات في المستقبل القريب موجة من اندماجات السوق، لا تكون مدفوعة بالتنظيم، بل بواقع اقتصاديات المواهب. فالشركات التي تعجز عن الاحتفاظ بكوادرها الأساسية قد تُضطر إلى الاندماج، أو تقليص حجم عملياتها، أو التركيز على مجالات متخصصة للبقاء في المشهد التنافسي.
الصورة الأشمل
تُمثّل رحلة بايبت من الحصول على موافقة هيئة تنظيم الأصول الافتراضية (VARA) في دبي إلى نيل ترخيص هيئة الأوراق المالية والسلع (SCA)، وما تلاها من طفرة في التوظيف، نقطة تحول حاسمة في منظومة الأصول الرقمية في الإمارات العربية المتحدة. إذ لم تقتصر استراتيجية المنصة على توسيع نطاق عملياتها فحسب، بل امتدت لتعيد تعريف هيكل الكفاءات والتعويضات في قطاع العملات الرقمية بالمنطقة.
وخلال هذه العملية، برزت ديناميكية جديدة، إذ أصبح التقدم التنظيمي مرتبطًا بجاذبية اقتصادية. فقد أصبح بإمكان أصحاب رأس المال والقيادات التنفيذية استقطاب أفضل الكفاءات، وبناء منظومة تشغيلية متكاملة، ووضع معايير جديدة للتوسع والنمو. كما كشف هذا المسار عن تحول في مفهوم القوة في السوق، حيث لم تعد الموافقات التنظيمية وحدها كافية لتحديد موقع الشركة بين المنافسين، بل أصبح عامل الموارد البشرية والمكافآت المالية أحد عناصر النفوذ الأساسية.
وفي سوق لم تعد فيه التراخيص مجرد هدف نهائي، بل نقطة انطلاق حقيقية، قد تُحدد خطوات بايبت المقبلة ملامح تنظيم قطاع العملات الرقمية في الإمارات، ليس فقط عبر السياسات والتشريعات، بل من خلال القدرة على استقطاب الكفاءات وتقديم رواتب ومزايا تنافسية تُعيد رسم خرائط القوى في القطاع بالكامل.