ارتفاع الذهب والبيتكوين: إنتعاش تجارة “تخفيض القيمة” وتنافس الأصول الآمنة

على مدى قرون، اعتاد المستثمرون الباحثون عن ملاذ آمن في أوقات عدم اليقين على اللجوء إلى الذهب. واليوم، ومع تفاقم الدين العالمي وتراجع القوة الشرائية للعملات، عاد هذا “الأثر البربري” إلى دائرة الضوء بقوة، حيث تجاوز سعر الأونصة حاجز 4000 دولار لأول مرة في التاريخ. وفي ظل هذا الارتفاع، تواصل البنوك المركزية شراء الذهب بوتيرة قياسية، فيما تحقق أسهم شركات التعدين أداءً متفوقًا. وقد ذهب محللون، مثل أولئك في بنك غولدمان ساكس، إلى توقع إمكانية وصول سعر الذهب إلى 5000 دولار بحلول عام 2026.
غير أن هذا التفاؤل لا يلقى إجماعًا كاملاً. فبينما يرى البعض أن الذهب يمثل الحل الأمثل لمواجهة الاضطرابات النقدية، يعتقد آخرون أن الاعتماد المفرط عليه قد يكون محفوفًا بالمخاطر. ومن أبرز المنتقدين قطب العقارات غرانت كاردون، الذي وجّه تحذيرًا صريحًا لمستثمري بيتكوين الذين يفكرون في التخلي عن مراكزهم والتحول إلى الذهب. إذ قال بلهجة حاسمة: “لا تكن غبيًا. هذا خطأ بمليون دولار”، وفقًا لما نقل موقع ديكريبت.
جاذبية المعدن الأصفر
يُعد صعود الذهب حدثًا تاريخيًا بقدر ما هو دراماتيكي. فقد ارتفع المعدن الأصفر على مدى سبعة أسابيع متتالية، مدفوعًا بمزيج من العوامل تشمل تصاعد مخاوف الديون، وضعف الدولار الأميركي، إضافةً إلى التوترات الجيوسياسية. وفي هذا السياق، تواصل البنوك المركزية، ولا سيما في الأسواق الناشئة، تنويع احتياطياتها بعيدًا عن الدولار، بينما تشهد صناديق التداول الفورية في الذهب تدفقات مالية جديدة. كما ارتفع الطلب على المعدن الثمين من قبل الأفراد الباحثين عن ملاذ آمن يحمي مدخراتهم من التقلبات الاقتصادية.
هذا الزخم أعاد تسليط الضوء على صناعة التعدين، التي عانت لسنوات من أداء ضعيف. واليوم، تتفوق أسهم شركات التعدين بشكل لافت على أسهم الذكاء الاصطناعي وحتى بيتكوين، اللتين كانتا محور الاهتمام خلال طفرة التكنولوجيا الحديثة. بالنسبة إلى العديد من المستثمرين، لم يعد الذهب مجرد أداة للتحوط، بل تحول إلى مؤشر يعكس تراجع الثقة في العملات الورقية التقليدية.
مع ذلك، يحذر بعض الخبراء من أبعاد أكثر خطورة لهذا الصعود. إذ يرى الملياردير كين غريفين أن ارتفاع الذهب يعكس في جوهره ضعف الثقة في الاستقرار المالي الأميركي. وإذا صح هذا التفسير، فإن صعود المعدن الأصفر لا يمثل مجرد حركة في الأسواق، بل يشكل استفتاءً حقيقيًا على مصداقية الاقتصاد الأميركي وقدرته على الصمود أمام التحديات الراهنة.
حجّة البيتكوين المضادة
في الوقت عينه، لم يكن البيتكوين يومًا بعيدًا عن مفهوم “تجارة خفض القيمة”. فبفضل معروضه الثابت البالغ 21 مليون وحدة فقط، يقدّم ما يعجز الذهب عن ضمانه: ندرة حسابية محصّنة ضد التطورات التكنولوجية أو الاكتشافات الجديدة. وبينما يستطيع منقّبو الذهب زيادة الإنتاج، وربما بوتيرة أسرع مع دخول تقنيات الروبوتات المعززة بالذكاء الاصطناعي، يبقى جدول إصدارات البيتكوين ثابتًا، محفورًا في بنيته الأساسية.
ويركّز المستثمر “غرانت كاردون” على هذه النقطة تحديدًا، معتبرًا أن المقارنة بين الذهب والبيتكوين تُعد قصيرة النظر. فمن وجهة نظره، يُثقل الذهب أعباءً تقليدية مثل الخزائن وتكاليف النقل وضغوط الإمداد الناتجة عن التعدين، في حين يظل البيتكوين أصلًا رقميًا عالي السيولة وسهل النقل عبر الحدود. ويجادل كاردون قائلًا: “يمكن للتكنولوجيا أن تقوّض ندرة الذهب، لكن ندرة البيتكوين مطلقة لا يمكن المساس بها”.
وقد وجد هذا الرأي صدى واسعًا في أوساط مجتمع العملات الرقمية، خصوصًا مع تجاوز سعر البيتكوين حاجز 120,000 دولار أميركي خلال عام 2025. ومع ذلك، شهدت الأسواق تطورًا لافتًا مؤخرًا؛ إذ ارتفع سعر الذهب بشكل ملحوظ في الوقت نفسه الذي انخفض فيه سعر البيتكوين، نتيجة الضغوط التي أحدثها ارتفاع مؤشر الدولار الأميركي. وهكذا، يظهر أن الملاذين الآمنين المفترضين يسلكان مسارين متباعدين في المرحلة الراهنة، في إشارة إلى أن العلاقة بينهما أكثر تعقيدًا مما يظنه البعض.
“تجارة تخفيض القيمة” توحّدهما
على الرغم من التنافس القائم بين الذهب والبيتكوين، فإن كليهما يستمدان زخمهما من الدافع ذاته: تآكل الثقة في النقود الورقية. ويصف العديد من المحللين المشهد الحالي بأنه يمثل صعود ما يُعرف بـ”تجارة تخفيض القيمة”. والمنطق في ذلك واضح وبسيط؛ إذ إن الحكومات، مع استمرارها في طباعة تريليونات الدولارات وتضخم مستويات الديون، تدفع المستثمرين للبحث عن ملاذات آمنة لا يمكن طباعتها أو التلاعب بها.
وفي هذا السياق، لم يعد السؤال المطروح يدور حول الاختيار بين الذهب أو البيتكوين، بل بات يتمحور حول حجم الحصة المخصصة لكل منهما في المحافظ الاستثمارية. وقد شدد أسطورة صناديق التحوط راي داليو مرارًا على أهمية هذا التوازن، معتبرًا أن كلا الأصلين يؤديان أدوارًا متكاملة في محفظة مُهيأة لتحمل الاضطرابات النقدية وتقلبات الأسواق العالمية.
أين قد يتحول الوضع؟
مع ذلك، لا تزال بعض التحديات بارزة في المشهد. فبنك أوف أميركا يحذّر من أن المسيرة القياسية للذهب قد تكون قد بلغت مرحلة الامتداد، مستندًا إلى مؤشرات فنية تشير إلى حالة “تشبع شراء”. وأي تراجع محتمل في الأسعار قد يختبر متانة ثقة المستثمرين بهذا الأصل التقليدي.
وفي المقابل، يظل البيتكوين عرضة للتقلبات قصيرة الأجل وللصدمات التنظيمية، على الرغم من أن تعزيز اعتماد صناديق الاستثمار المتداولة والتدفقات المؤسسية يمنحه دعمًا متزايدًا ويعزز موقعه على المدى الطويل.
وبين هذين المسارين، قد تكمن الحقيقة في نقطة وسطية بين تحذيرات المتشائمين وحماسة الأسواق الراهنة. فالسعي وراء الذهب عند مستوياته القياسية قد يكون مكلفًا بالفعل، لكن تجاهله بالكامل يغفل الثقل النفسي والمؤسسي الراسخ الذي يحمله عبر التاريخ. أما البيتكوين، فقد يقدَّم اليوم كذهب رقمي، غير أن الذهب الحقيقي ما زال يحتفظ بمكانته الفريدة… لأنه ببساطة، ذهب.
ملاذ آمن في فصلين
يقدم المسرح المالي اليوم بطلين يؤديان الدور ذاته، وإن بملامح مختلفة. فالذهب، ذلك الأصل العريق والملموس، يتألق أكثر من أي وقت مضى مستندًا إلى إرثه التاريخي كحافظ للقيمة وملاذ في أوقات الاضطراب. وفي المقابل، يبرز البيتكوين، الشاب والرقمي، واعدًا بالاستمرارية في عالم يعتمد على التشفير والتكنولوجيا الحديثة. كلاهما يرتفع ليس فقط في مواجهة الدولار، بل أيضًا في مواجهة الفكرة ذاتها التي تعتبر أن المال يمكن أن يكون بلا حدود.
ومن هنا، يتضح أن النقاش الحقيقي لا يتمحور حول تحديد أي الأصلين “أفضل”، بل حول أي سردية ستقود المشهد المالي العالمي في المستقبل: هل ستكون تقاليد الماضي الراسخة التي يمثلها الذهب، أم ثورة التكنولوجيا التي يجسدها البيتكوين؟ إن الإجابة عن هذا السؤال قد تحدد ملامح الفصل القادم من التاريخ النقدي العالمي.