هل تفشل “ميكا” بالفعل؟ معركة فرنسا حول آلية الترخيص الموحد (Passporting)

عندما أطلق الاتحاد الأوروبي لائحة “ميكا” (MiCA – Markets in Crypto-Assets Regulation)، قُدمت باعتبارها أول إطار موحّد لتنظيم الأصول المشفرة في العالم. الفكرة كانت جريئة: ترخيص واحد من أي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي يسمح للشركة بالعمل في جميع الدول الـ27 ضمن ما يُعرف بآلية الترخيص الموحد (Passporting).
لكن فرنسا تهدد اليوم هذه المنظومة. فقد ذكرت وكالة رويترز أن الجهات التنظيمية الفرنسية قد تسعى لحجب التراخيص الصادرة من بعض الدول الأوروبية الأخرى إذا رأت أن الرقابة ضعيفة، ووصفت هذا الخيار بأنه “سلاح ذري”.
وعود “ميكا” وواقع الترخيص الموحد
هدفت “ميكا” إلى تبسيط المشهد المجزأ لتنظيم العملات المشفرة في أوروبا. منصات مثل “كوين بيس”، التي حصلت على ترخيص ميكا من لوكسمبورغ، خططت لاستخدام نظام الترخيص الموحد للتوسع عبر القارة الأوروبية.
لكن هذا النموذج يقوم على الثقة المتبادلة. فإذا طبقت إحدى الدول معايير أقل صرامة، فإن هذا المعيار ينسحب عملياً على باقي الاتحاد، ما يحوّل الترخيص الموحد إلى ثغرة محتملة.
الروابط الضعيفة في “ميكا”
يدور الجدل أساساً حول مالطا، التي لطالما عُرفت بلقب “جزيرة البلوكشين”. تاريخها في منح تراخيص أكثر مرونة أثار تساؤلات حول قوة الإنفاذ. لكن مالطا ليست وحدها. فليتوانيا، التي أصبحت وجهة مفضلة لشركات العملات المشفرة بفضل إجراءات الترخيص السريعة، وليختنشتاين، التي قدمت مبكراً قانون البلوكشين مما سهّل دخول الشركات إلى أوروبا، تُعتبران أيضاً روابط ضعيفة محتملة.
بالنسبة للمنظمين في باريس وأماكن أخرى، فإن فكرة أن ترخيصاً صادراً من إحدى هذه الدول يمكن أن يفتح تلقائياً أسواقاً كفرنسا أو ألمانيا أمر غير مقبول. الخوف هو أن تتحول ميكا إلى سباق نحو القاع، حيث تبحث الشركات عن أسهل جهة تمنح الترخيص ثم تعممه على كامل الاتحاد.
المصالح الوطنية أولاً
هذا الصدام يعكس قصة أوروبية مألوفة: الدول الأعضاء تضع مصالحها الوطنية أولاً. من نقص الإمدادات الطبية خلال جائحة كوفيد، إلى الخلافات حول السياسات المالية، لطالما خضع الاتحاد الأوروبي لضغوط داخلية. ميكا كان يُفترض أن يُظهر وحدة أوروبا في مجال التمويل الرقمي، لكن موقف فرنسا كشف مجدداً عن تلك التصدعات.
ما التداعيات المنتظرة على شركات التشفير؟
إذا منعت فرنسا آلية الترخيص الموحد، فإن ميزة ميكا ستتبخر. بدلاً من “ترخيص واحد، 27 سوقاً”، ستجد الشركات نفسها أمام إجراءات مجزأة، وتكاليف امتثال أعلى، وعدم يقين قانوني. هذه النتيجة ستضر بالشركات والمستهلكين على حد سواء، وتُضعف طموح الاتحاد الأوروبي في أن يصبح مركزاً رائداً للعملات المشفرة.
الحل الحقيقي يكمن في تمكين هيئة الأوراق المالية والأسواق الأوروبية (ESMA). فلا يمكن سوى لجهة مركزية تمتلك صلاحيات مباشرة في الرقابة والإنفاذ والتدقيق أن تمنع التحايل التنظيمي وتضمن أن تحقق ميكا وعودها.
أما ترك الإنفاذ للجهات الوطنية، فيؤدي إلى معايير غير متوازنة وصراعات سياسية دائمة. لكي تنجح ميكا — ويحافظ الاتحاد الأوروبي على مصداقيته في التمويل الرقمي — يجب أن تصبح ESMA الجهة المشرفة الموحدة على سوق الأصول المشفرة في أوروبا.
الإمارات: ملاذ متوقع لمزوّدي الأصول الافتراضية
بالنسبة لمزوّدي خدمات الأصول الافتراضية (VASPs)، فإن الاستقرار والوضوح أهم من الوعود. واليوم تُعد الإمارات واحدة من أكثر الأسواق موثوقية، حيث وضعت الجهات التنظيمية أطرًا واضحة ومستقرة تمنح الشركات ثقة طويلة الأمد.
على عكس أوروبا التي تشهد أرضية متحركة مع ميكا وصراعاتها الداخلية، تقدم الإمارات يقينًا تنظيمياً يجعلها وجهة جذابة للشركات الباحثة عن بيئة مستقرة ومستقبل يمكن التنبؤ به.
فرنسا بخطوتها هذه لا تخوض مجرد نزاع تنظيمي، بل تثير سؤالاً أكبر: هل لا يزال الاتحاد الأوروبي قادراً على التصرف ككتلة اقتصادية واحدة عندما تتصادم المصالح الوطنية؟ ميكا صُممت لتوحيد الأسواق الأوروبية في مجال الأصول المشفرة، لكن الخطر الآن أن تتحول إلى الرصاصة التي تكشف تصدعات الاتحاد نفسه.