التحوّل الاستراتيجي للعملات الرقمية في باكستان — والمعادلة الأميركية–الهندية تتغيّر

عندما مدح دونالد ترامب باكستان على حساب الهند، لم يكن الأمر مجرد خطاب دبلوماسي، بل إشارة إلى إعادة تموضع استراتيجي. فإسلام آباد تنسج سياسة الأصول الرقمية في صميم قطاعات الطاقة والتجارة والحوكمة والعلاقات الخارجية. والنتيجة: دفء غير مسبوق في العلاقات مع واشنطن، اهتمام عالمي متزايد، وتحوّل في موازين القوى في جنوب آسيا.

بناء الأسس — قبل العناوين الكبرى

رحلة باكستان مع البلوكشين والأصول الرقمية لم تبدأ في 2025، بل زُرعت بذورها في وقت سابق:

• مارس 2023: أفانزا جروب أعلنت عن أول منصة وطنية تعتمد البلوكشين للتحقق من الهوية (eKYC)، لتحديث أنظمة الامتثال البنكي.
• ديسمبر 2023: إنفويستمِيت أكملت تجربة ناجحة في التمويل الائتماني على شبكة XDC، مؤكدة دور البلوكشين في تمويل الشركات الصغيرة والتجارة.
  هذه الإنجازات المبكرة مهّدت الطريق للتحوّلات على مستوى الدولة.

من التجارب إلى الاستراتيجية الوطنية

خلال الأشهر الثمانية الماضية، انتقلت باكستان من التجارب إلى سياسات واضحة:

• مرسوم الأصول الافتراضية 2025: أسّس هيئة تنظيم الأصول الافتراضية في باكستان (PVARA) لتولي التراخيص والإشراف على مقدمي خدمات العملات الرقمية.
• تجربة العملة الرقمية للبنك المركزي (CBDC): أطلق البنك المركزي الباكستاني مشروعاً تجريبياً لإصدار عملة رقمية، ضمن خطط تحديث البنية المالية.
• مجلس العملات الرقمية الباكستاني (PCC): تأسس في مارس 2025 برئاسة وزير المالية وتولى بِلال بن سَقيب منصب المدير التنفيذي، فيما انضم مؤسس باينانس CZ كمستشار استراتيجي.
• استراتيجية الطاقة للحوسبة: تخصيص 2000 ميغاواط من فائض الكهرباء لتعدين البيتكوين ومراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، مدعومة بإنشاء احتياطي بيتكوين سيادي. هذا يثير تساؤلات حول انتقال شركات التعدين الإقليمية نحو باكستان، خاصة القادمة من الخليج. ومع بروز مجموعة فينكس الإماراتية كلاعب عالمي في التعدين والبنية التحتية للحوسبة، يبقى السؤال: هل تستقطب باكستان هذه الاستثمارات؟
• هيئة باكستان الرقمية (PDA): أنشئت لتنسيق التحول الرقمي على المستوى الوطني، وتطوير أنظمة الهوية والاقتصاد الرقمي.
• اتفاقية WLFI–PCC (أبريل 2025): وقّعت منصة التمويل اللامركزي المرتبطة بترامب World Liberty Financial (WLFI) مذكرة تفاهم مع مجلس العملات الرقمية الباكستاني لتعزيز الابتكار في البلوكشين والتمويل اللامركزي وتجارب السندبوكس التنظيمي. وجاء الإعلان عقب لقاء رفيع المستوى في أبوظبي جمع مؤسسي WLFI بمؤسس باينانس CZ، مؤكداً انخراط باكستان في تحالفات الكريبتو العالمية.
  هذه الخطوات تتجاوز مجرد التنظيم، لتشكّل بنية مؤسساتية داعمة للاستراتيجية الاقتصادية والجيوسياسية.

الانفتاح الأميركي المحسوب

واشنطن استجابت بموقف أكثر ودية تجاه إسلام آباد مقارنة بنيودلهي:

• تخفيض الرسوم على باكستان: اتفاق تجاري جديد خفّض الرسوم على المنسوجات وتكنولوجيا المعلومات والمنتجات الزراعية، وفتح مجالات تعاون في احتياطات النفط والأصول الرقمية.
• فرض الرسوم على الهند: بالمقابل، فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية بنسبة 25% على البضائع الهندية بدءاً من 7 أغسطس، لترتفع إلى 50% بنهاية الشهر، كعقاب على شراء النفط الروسي المخفض. أما معدل الرسوم على باكستان فيبلغ نحو 19%، ما يجعلها من بين الدول الآسيوية المفضلة تجارياً.
  هذا يعكس سياسة أميركية واضحة: مكافأة الحلفاء ومعاقبة المستقلين.

تردّد الهند

رغم كونها القوة الاقتصادية الأبرز في جنوب آسيا، ما زال موقف الهند من العملات الرقمية يتسم بـ الضرائب المرتفعة والقيود الصارمة والتردد في اعتمادها كبنية تحتية استراتيجية. ورغم الترويج لابتكارات محلية مثل UPI وONDC، إلا أن نيودلهي لم تدمج الكريبتو ضمن استراتيجيتها الوطنية.
المشهد متباين: باكستان تدمج الأصول الرقمية في استراتيجيتها الدولية، بينما الهند ما زالت “تناقش جنس الملائكة”.

مقاومة الهند — وتزايد الكلفة

إنّ سعي الهند إلى استقلال استراتيجي يرتّب عليها تكاليف متنامية:

• الرسوم الأميركية الجديدة قد تخفّض نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.3–0.6%.
• استمرار علاقتها الوثيقة مع موسكو ومساعيها لاقتصاد متعدد الأقطاب يضغط على علاقاتها مع واشنطن ويثير القلق بين شركاء التحالف الرباعي (Quad).
  في المقابل، تُظهر باكستان سرعة تنظيمية ومواءمة سياسية تجعلها شريكاً أسهل وأكثر جاذبية للولايات المتحدة.

ما الذي ستجنيه باكستان؟

• جذب رؤوس الأموال: الإطار التنظيمي الواضح والمستشارون العالميون يضعون باكستان كمركز إقليمي للتداول والحفظ والابتكار في الرموز المميّزة (Tokenization).
• تحويل الطاقة إلى عوائد: استخدام فائض الكهرباء في التعدين والذكاء الاصطناعي يحوّل الأعباء إلى مصادر دخل.
• تحويلات وتجارة أرخص: تجارب العملة الرقمية للبنك المركزي والأطر التنظيمية تتيح تسويات عبر الستيبلكوين، ما يقلل التكاليف على ملايين العاملين بالخارج والتجار.
• ورقة ضغط دبلوماسية: سياسات الكريبتو أصبحت أداة للمساومة مع واشنطن.

الكريبتو كأداة جيوسياسية

هذا التحوّل ليس ماليًا فقط، بل جيوسياسيًا بامتياز. فمن خلال مكافأة باكستان على مواءمتها، يضغط ترامب في الوقت نفسه على الهند بسبب ميلها نحو الاستقلال، لا سيما عبر صفقاتها النفطية مع روسيا ومحاولاتها تجنّب الدولار.

لقد أصبح الكريبتو رمزًا وأداة عملية في ميزان القوى. قبول باكستان دمج الأصول الرقمية في استراتيجيتها الوطنية منحها مساحة وفوائد، بينما تردّد الهند تركها عرضة للرسوم والضغوط.

ويبقى السؤال: هل ستنجح باكستان في ترسيخ استراتيجيتها الرقمية كبنية تحتية مستدامة، أم أن الأمر لا يتجاوز كونه نتاجًا ظرفيًا لصراع جيوسياسي؟ في كلتا الحالتين، انتقل الكريبتو من كونه صناعة إلى أداة للدبلوماسية والسياسة في جنوب آسيا، ومعه يتغير ميزان القوى.