البيتكوين يقلق البنوك المركزية: وداعاً لعهد السيطرة الذهبية؟

لطالما كان النظام المالي العالمي مسرحًا للهيمنة والتحكم. فمنذ أيام الذهب، العملة المعترف بها عالميًا، احتكرت الدول الكبرى والبنوك المركزية هذه الثروة لتحكم الأسواق وتمارس نفوذها. ومع التحول التدريجي نحو النقود الورقية المبنية على الثقة، وليس التخلي الكامل عن الذهب، ازدادت سلطة البنوك المركزية حيث أصبحت تتحكم في المعروض النقدي وأسعار الفائدة بما يخدم مصالحها السياسية والاقتصادية. لكن ظهور البيتكوين والعملات الرقمية قلب الموازين تمامًا، إذ أثارت الطبيعة اللامركزية للبيتكوين قلق المؤسسات التي اعتادت على التحكم المطلق في طباعة النقود وضبط سياسات التضخم، مما يهدد المشهد المالي العالمي بأكمله.
لماذا تخشى البنوك المركزية البيتكوين؟
يتجاوز خوف البنوك المركزية من صعود البيتكوين مجرد منافسة تقليدية، فهو تهديد مباشر لأسس سلطتها ووظائفها الحيوية. ينبع هذا القلق من حقيقة أن البيتكوين يقوض الهيمنة النقدية والتحكم السياسي الذي اعتادت عليه تلك المؤسسات. على عكس العملات التقليدية، لا يخضع البيتكوين لسلطة مركزية تتحكم في إصداره أو قيمته. بمعنى آخر، لا يمكن تزويره أو طباعته بشكل عشوائي استجابةً لقرارات سياسية أو أوضاع اقتصادية. هذا التحرر المالي من السيطرة المركزية يمثل ضربة قوية للبنوك التي تعتمد على ضبط السيولة عبر طباعة النقود أو سحبها، وإدارة التضخم، وفرض السياسات المالية. فقدان هذه القدرة يعني تآكلًا تدريجيًا لمفهوم السيادة النقدية للدول، وهو ما يثير قلقًا عميقًا.
علاوة على ذلك، يشكل البيتكوين ملاذًا آمنًا ومنافسًا قويًا لاستقرار العملات التقليدية، مما يزيد من توتر البنوك المركزية. في عالم ما بعد 2008، حيث أصبحت طباعة النقود استجابة شائعة للأزمات، برزت الحاجة الملحة لملاذ يحمي الثروة من تآكل القوة الشرائية. هنا يبرز البيتكوين كبديل جذاب؛ فبينما يتزايد عرض النقود التقليدية بلا توقف، فإن محدودية البيتكوين (21 مليون وحدة فقط) تجعله أصلًا مقاومًا للتضخم بطبيعته. هذا يجعله خيارًا مفضلًا للمستثمرين الباحثين عن حماية مدخراتهم في بيئات غير مستقرة اقتصاديًا.
لطالما كان الذهب الملاذ الآمن التقليدي، لكن البيتكوين يقدم بديلاً رقميًا يتميز بسهولة التداول، وقسمة الوحدات، وصعوبة المصادرة مقارنة بالذهب المادي. وفي ظل تصاعد عدم الثقة بالمؤسسات المالية التقليدية، يقدّم البيتكوين نموذجًا مبنيًا على التشفير والتحقق اللامركزي، يقلل من الاعتماد على الوسطاء المركزيين. هذا التحول من الثقة في المؤسسات إلى الثقة في التكنولوجيا يمثل تهديدًا مباشرًا لأركان البنوك المركزية.
نظام مالي بديل
البيتكوين ليس مجرد وسيلة تبادل، بل هو نظام مالي بديل كامل ينشأ خارج الهياكل المصرفية التقليدية والرقابة الحكومية. على عكس الأنظمة النقدية التقليدية التي تسيطر عليها البنوك المركزية، يعمل البيتكوين على شبكة لا مركزية، حيث تتم المعاملات مباشرة بين الأطراف ويتم التحقق منها وتسجيلها في دفتر أستاذ موزع لا يمكن تغييره، يُعرف باسم “البلوكتشين”.
هذا التصميم الفريد يمنح البيتكوين خصائص لا تتوفر في العملات الورقية، فهو مقاوم للرقابة، ولا يمكن تضخيم عرضه بسياسات سياسية، وقيمته مستقلة عن سياسات الدول الاقتصادية. التحول من الثقة في المؤسسات إلى الثقة في الرياضيات والتشفير هو ما يزعج البنوك المركزية، لأنه يهدد هيمنتها على حركة الأموال وقدرتها على التأثير في الأسواق، بل وحتى التحكم في المصير المالي للأفراد.
الموقف العالمي: بنوك مركزية مع التيار وأخرى ضده
مع التحولات الجذرية في النظام المالي، تختلف مواقف الدول بين من يتبنّى التغيير ويعمل على استثماره، ومن يتحفظ ويقاومه. يمكن تصنيف السياسات العالمية تجاه العملات الرقمية إلى محورين: محور استباقي يقوده دول تسعى للمواءمة بين الابتكار والسيادة النقدية، ومحور محافظ يتخذ موقف الحذر مدفوعًا بمخاوف تتعلق بالرقابة والسيطرة.
تُعتبر الإمارات من أبرز الدول التي تبنّت مقاربة متوازنة تستند إلى فهم عميق لطبيعة النظام المالي الجديد، عبر مشاريع استراتيجية مثل mBridge بالتعاون مع الصين وهونغ كونغ وتايلاند، حيث تطور عملة رقمية صادرة عن البنك المركزي (CBDC) تسهّل المدفوعات العابرة للحدود وتخفض التكاليف.
هذا التوجه يعكس ليس فقط استعداد الإمارات للتكنولوجيا، بل رؤيتها الاقتصادية والجيوسياسية لتعزيز موقعها كمركز مالي عالمي في عصر ما بعد الدولار الورقي. الإمارات فهمت أن العملات الرقمية لم تعد أداة مضاربة فقط، بل هي عنصر أساسي في معادلة النفوذ المالي العالمي، ولذلك اختارت أن تكون جزءًا من صناعة القواعد، لا مجرد متبعة.
كما أطلقت الإمارات أُطرًا تشريعية مرنة وحازمة في الوقت ذاته عبر هيئات مثل سلطة تنظيم الأصول الافتراضية في دبي، مما جعل تجربتها مثالًا يحتذى به، لا سيما للدول النامية التي تريد اللحاق بركب التطور دون التخلي عن سيطرتها النقدية.
في المقابل، ما زالت دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وكندا تظهر تحفظًا واضحًا تجاه العملات الرقمية، سواء اللامركزية مثل البيتكوين أو حتى فكرة العملات الرقمية المركزية. هذا التحفظ ينبع غالبًا من مخاوف فقدان الهيمنة النقدية وتراجع قدرة البنوك المركزية على التحكم بالسياسات المالية، خصوصًا المتعلقة بالضرائب والسيولة ومكافحة غسل الأموال.
المفارقة أن هذه الدول، رغم اعتمادها للتكنولوجيا في مجالات أخرى، لا تزال تتصارع داخليًا بين حماية النظام القديم ومحاولة استيعاب الموجة الرقمية الجديدة.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الخطوة الذكية للكونغرس الأميركي في يونيو 2024 بتمرير قانون الابتكار المالي (FIT21)، الذي يمثل محاولة متقدمة لتنظيم الأصول الرقمية وتحديد أدوار الجهات التنظيمية مثل هيئة تداول السلع الآجلة وهيئة الأوراق المالية. هذه الخطوة تكشف عن براعة تكتيكية أميركية، فهي لا تتبنى التكنولوجيا بشكل كامل ولا ترفضها، بل تسعى لاحتوائها ضمن أطر قانونية تحفظ مصالحها الاستراتيجية، لتبقى في موقع المشرف على قواعد اللعبة مع تزايد اعتماد المؤسسات الكبرى على هذه الأصول.
هل يمكن التوافق بين البنوك المركزية والبيتكوين؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن التوافق بين البنوك المركزية والبيتكوين أمر مستحيل، نظرًا للفوارق الجوهرية في الفلسفة بينهما. فالبنوك تمثل السلطة النقدية التقليدية التي تتحكم في إصدار العملة وإدارة السياسات المالية بما يحافظ على استقرار الاقتصاد الوطني. أما البيتكوين، فقد وُلد من رحم الشك في هذه المؤسسات، بعد الأزمة المالية العالمية 2008، كبديل لامركزي يهدف لكسر احتكار الدولة للنقد وتحرير الأفراد من هيمنة البنوك.
لكن قراءة أعمق تكشف أن العلاقة ليست صراعًا فقط؛ فالبنوك المركزية بدأت تدريجيًا تدرك أن تجاهل العملات الرقمية قد يُفقدها تأثيرها على المدى الطويل. الواقع اليوم يشهد تحولًا من الرفض إلى سياسة احتواء، حيث تتسابق البنوك المركزية لإطلاق عملات رقمية صادرة عنها، تواكب التطور الرقمي دون التخلي عن أدوات الرقابة والتحكم.
أخيرًا، يبقى التحدي الأكبر في إمكانية التوفيق بين منطقين متضادين: البيتكوين قائم على الشفافية واللامركزية، بينما البنوك المركزية تقوم على الاحتكار المؤسسي للسياسة النقدية. ومع ذلك، يبدو أن الحل الواقعي في المستقبل هو “التعايش النقدي”. فبدلًا من اعتبار البيتكوين بديلًا، قد يُدمج كأصل تحوطي أو وسيلة لتسوية المعاملات الدولية، خاصة في الدول التي تعاني من ضعف البنية المالية أو تضخم مفرط.
إجمالًا، التوافق بين البيتكوين والبنوك المركزية ليس مستحيلاً، بل هو مسألة توازن وتحديث. الأنظمة النقدية لم تعد تستطيع تجاهل ديناميكيات التكنولوجيا الجديدة. والسؤال الأهم الآن لم يعد هل سيتوافق الطرفان؟ بل كيف ومتى وتحت أي شروط؟