البريكس نحو نظام مالي جديد: “بوتين” يقود التحدي ضد الدولرة

شهدت قمة مجموعة البريكس الأخيرة في قازان تحولاً هاماً في النظام المالي العالمي. فقد دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إنشاء نظام دفع عالمي جديد، مؤكداً على مخاطر الاعتماد المفرط على الدولار كأداة للتأثير السياسي. وأشار بوتين إلى أن “الدولار يستخدم كسلاح”، مما يؤكد الحاجة الملحة لحماية اقتصادات الدول الأعضاء في البريكس من التقلبات الناتجة عن الهيمنة الدولارية. تسعى دول البريكس، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، إلى بناء نظام مالي أكثر عدالة واستقلالية، يقلل من الاعتماد على الأنظمة المالية التقليدية مثل سويفت.
تقنية البلوكتشين: الطريق إلى الاستقلال المالي
تشهد العلاقات الاقتصادية العالمية تحولات جذرية مع استكشاف دول مجموعة البريكس لبدائل للأنظمة المالية التقليدية. وتتصدر المناقشات حول إمكانية إنشاء عملة موحدة لمجموعة البريكس، مدعومة بأصول مثل الذهب أو مبنية على تقنية البلوكتشين، المشهد العالمي. إن اعتماد تقنية البلوكتشين في هذه المبادرات يعكس التوجه نحو تعزيز الشفافية والأمان في المعاملات المالية. ونظراً لحجم الاقتصادات التي تمثلها دول البريكس، فإن هذه المبادرات تشكل تحدياً كبيراً للنظام المالي العالمي الحالي.
المشهد الاقتصادي الأميركي: عبء متزايد
يعاني الاقتصاد الأميركي من أزمة ديون متصاعدة، حيث ارتفع الدين العام بمقدار 473 مليار دولار خلال فترة قصيرة بلغت ثلاثة أسابيع، ليصل إلى 35.8 تريليون دولار. هذا يعني أن متوسط نصيب الفرد الأميركي من الدين العام قد زاد بمقدار 1450 دولارًا أميركياً خلال هذه الفترة. ونتيجة لهذا الارتفاع الحاد، تجاوزت فوائد الدين العام التريليون دولار أمريكي في عام 2024 لأول مرة في التاريخ.
تثير أزمة الديون هذه مخاوف جدية بشأن استقرار الاقتصاد العالمي. وقد حذر “جيمي ديمون”، الرئيس التنفيذي لبنك “جي بي مورغان تشيس”، من أن التحديات الجيوسياسية المتزايدة، بما في ذلك الضغوط المالية المتزايدة، تزيد من حدة هذه المخاوف. كما أشار إلى أن التوترات الدولية مع دول مثل إيران وكوريا الشمالية وروسيا تزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي العالمي.
كتلة البريكس المتوسعة: تحول في القوة العالمية
تزداد أهمية مجموعة البريكس على الساحة الدولية، حيث تسعى العديد من الدول للانضمام إليها. وقد لفتت طلبات الانضمام الرسمية، ومنها طلب تركيا، الأنظار إلى جاذبية هذا التكتل. ويؤكد حضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في القمة الأخيرة على اهتمام بلاده بالانضمام إلى البريكس والمساهمة في تحقيق أهدافها.
هذا ويساهم سنّ تركيا لقوانين تنظيمية شاملة للأصول الرقمية في تعزيز مكانتها كمركز إقليمي لهذا القطاع. ومن المتوقع أن يساهم انضمام تركيا، إلى جانب دول أخرى مثل الإمارات العربية المتحدة، في تعزيز جهود مجموعة البريكس لتطوير نظام مالي بديل، وقيادة الابتكارات في مجال العملات الرقمية والأصول الرقمية.
أهداف بوتين: إعادة تعريف التعاون الاقتصادي
تتمحور أجندة “بوتين” في القمة حول تعزيز التعاون الاقتصادي بما يتجاوز القيود التي يفرضها الدولار. وقد سلط الضوء على الجهود الجارية التي تبذلها روسيا لتطوير البنية الأساسية للتسوية والدفع التي يمكنها التحايل على نظام سويفت، مما يضع روسيا كلاعب رئيسي في هذه العملية التحويلية. وتؤكد تصريحاته على رؤية لنظام بيئي اقتصادي مكتفٍ ذاتيًا يستفيد من نقاط القوة لدى أعضاء مجموعة البريكس لخلق مسارات جديدة للتجارة والاستثمار.
المخاوف بين أعضاء مجموعة البريكس
تزداد وتيرة التعاون بين دول مجموعة البريكس، حيث تسعى إلى تقليل الاعتماد على الدولار الأميركي في المعاملات الدولية. ومع ذلك، تثير هذه المبادرة مخاوف داخل الكتلة، خاصة من البرازيل والهند اللتين تدعوان إلى الحفاظ على توازن المصالح بين الدول الأعضاء. فهذان البلدان يخشيان من أن تتحول المجموعة إلى تكتل أحادي الجانب، مما قد يؤثر سلبًا على مصالحهما الاقتصادية والسياسية.
هذا وتشير المناقشات التي جرت خلال القمة إلى رغبة مشتركة بين الدول الأعضاء في استكشاف بدائل للعملات العالمية التقليدية في التجارة. ويشهد التبادل التجاري بين روسيا والصين نمواً ملحوظاً بالعملات المحلية، حيث يتم حالياً إجراء ما يقرب من 95% من المعاملات بالروبل واليوان. ويعكس هذا التوجه السعي إلى تعزيز الاستقلال الاقتصادي وتقليل الاعتماد على العملات الغربية.
وجهة نظر إيران بشأن النفوذ الغربي
في كلمة له قبل انعقاد قمة البريكس، دعا السفير الإيراني كاظم جلالي دول المجموعة إلى بناء نظام مالي مستقل يتجاوز الهيمنة الغربية. ورأى جلالي أن النظام المالي الحالي يفرض قيوداً غير عادلة على الدول النامية، الأمر الذي يستدعي إنشاء نظام مالي جديد قائم على مبادئ التعاون والمساواة بين الدول.
العملة الرقمية: أداة استراتيجية في الجغرافيا السياسية
في ظل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، برزت العملات الرقمية كأداة مهمة في التعامل مع التحديات الاقتصادية. فمع فرض عقوبات على روسيا، تلجأ هذه الدولة إلى العملات الرقمية مثل البيتكوين كوسيلة لتجاوز القيود المالية. وتعتبر فكرة السماح لعمال المناجم الروس ببيع البيتكوين للمستهلكين الأجانب مثالاً على هذا التوجه. ويشير هذا التحول إلى الرغبة المتزايدة في إيجاد أنظمة مالية أكثر مرونة واستقلالية.
تتعاون شركة “بترايفر”، إحدى أكبر شركات تعدين العملات الرقمية في روسيا، مع صندوق الاستثمار المباشر الروسي لإنشاء مراكز بيانات متخصصة في تعدين البيتكوين والذكاء الاصطناعي في دول مجموعة البريكس. تهدف هذه المبادرة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي بين دول المجموعة وتسهيل المعاملات التجارية عبر الحدود، وذلك من خلال تطوير البنية التحتية الرقمية وتشجيع استخدام التكنولوجيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي. كما تسعى الشركتان إلى تطوير إطار تنظيمي داعم لتعدين العملات الرقمية، مستفيدتين من القوانين الجديدة في روسيا التي تسهل استخدام العملات الرقمية في المدفوعات الدولية.
هل هناك مشهد مالي جديد؟
تشير قمة البريكس الحالية إلى تحول جذري في النظام المالي العالمي، حيث تتزايد الدعوات إلى إنشاء أنظمة دفع بديلة. وتتجاوز أهمية هذه المبادرات مجرد البحث عن بدائل للعملات التقليدية، إذ تعكس تحولاً جيوسياسياً أوسع نحو نظام مالي أكثر تنوعاً وتوازناً. ورغم أن نتائج هذه الجهود لا تزال غير واضحة، إلا أن التوجه نحو إزالة الدولرة وتبني العملات الرقمية يشير إلى أن المستقبل المالي سيشهد تطورات مهمة، حيث ستشكل الشراكات الجديدة والابتكارات التكنولوجية معالم هذا المستقبل.